برّاق ريما "بيروت" و"حكواتي القاهرة" : أوراق مبعثرة لسيرة أحلام ذاتية
جورج خوري (جاد) النهار، الأول من أيّار ٢٠١٠
في محاضرة-عرض عن لغة الشريط المصوّر ضمن مشغل تُعدّه الجامعة اللبنانيّة الأميركيّة لطللاّبها، تساءل برّاق ريما (الآتي من بروكسيل بعد غياب أكثر من عشر عن بيروت) عن معنى التمثيل في الفنون وحدودها وتمايزها عن بعضها. وبدا خلال العرض وكأنّه يُسائل نفسه محاولاً تلمّس الإجابة على أحاجي طرحها منذ ألبومه الأول “حكواتي القاهرة“ التي زارها للقاء المخرج يوسف شاهين وهو ما زال طالباً لفنون السينما. ت
وإذا كان بدأ “رسّاماً“ يستكشف خطوطه في ألبومه الأول والأخير الصادر عن دار نشر “لاكفتيير“، فإنّه في تجاربه الأخيرة المتقطّعة التي أعادت مجلّة “السمندل“ نشر قليلها، يختبر ولوج الصورة الفوتوغرافيّة (وهو التشكيلي والسينمائي الأختصاص في الأصل) دون أن يصل إلى ما يُقنع، فيعود إلى الخطّ ولكن من حيث توقّف ليستمرّ “هائماً“ بين الوسيطين تجمعُ بينهما القُدرة على الرواية. وهو في ذلك “حكواتي“ بامتياز يخرجُ من جعبته ما يسند قصّته خطوطاً “إسكتشيّة“ أو “كولاّجيّة“ أو صوراً فوتوغرافيّة أو حتّى فراغاً بصريّاً (منحى جديداً بدأنا نعتاده مع بعض “الفنون المعاصرة“). ت
يبدأ برّاق ريما رحلته إلى القاهرة والأسكندرية بصورة لحكواتي قديم معلّقة في مقهى شعبي (نكتشف ذلك بعد صفحات عدّة) وتأكيد على أن الراوي في الشرق “كلّما تكلّم أكثر، أخبرنا المزيد من القصص دون أن ينهي أيّاً منها“. وكأنه في كل ما نشر لاحقاً، على قلّته، تبنّى المقولة نفسها فبقي مايقوله كلاماً وأفكاراً مبعثرة لا تستقيم في رواية منتهية، أو ربّما أرادها عن قصد أفكاراً مفتوحة يتركُ للقارئ حرّية اختيار خواتمها (إذا تمكّن). هكذا يبدأ في وصف المتسوّلين في مصر وكيف أن “بعضهم يمدُّ يده فيما يبيع الآخر مواهبه الموسيقيّة أو كلامه المعسول... عايدة كانت تبيع محارم من ورق... أعطيتها ممحاة“. صفحة تسقط من مخيّلة المؤلّف لا لتُكمِلَ ما سبقها أو لتبدأ ما يليها. وكأنها سقطت سهواً منه، أو اقتُطعت عَرَضاً من دفتر ملاحظات سفر. و”حكواتي القاهرة“ هو قبل كل شيء مدوّنات رحلة مثلها كل أعماله. ت
رحّالة في عالم الفنون والتعابير هو برّاق ريما. على سفر دائم، بين مدينتين، ثقافتين، شخصيّتين، وسيلتي تعبير (هويّتين؟)... تبدو انتاجاته صفحات غير مكتملة من مدوّنة ذاته. يكتفي بفكرة واحدة، أو بإحساس واحد، أو برؤيا واحدة، يغوص في كلّ منها، يُسجِّل تفاعله هو معها... ويمضي دون الإلتفات وراءه... وإذا عاد فليجمع أوراقه المبعثرة في مشروع واحد أو ألبوم، وربّما لذلك علينا الإنتظار قبل صدور جديده في كتاب... (العمل الثابت الوحيد كان نشره شريطاً مصوّراً أسبوعيّاً في صحيفة “بروسل ديزه ويك“ البلجيكيّة، أوقفه خوفاً من “الوقوع في التكرار“ كما يُردّد). ت
سياقه الروائي أعاد إلى ذاكرتي ما كان يقوم به إدغار آحو، مُبدعٌ آخر من عندنا رحل باكراً وسبَقَه إلى تركيباته السورياليّة وعبثيّة أفكاره المُغرقة في ذاتيّتها، مع اختلاف اللغة التشكيليّة المتكاملة والفريدة للأخير حيثُ كانت لغته البصريّة توازي (وفي بعض الأحيان تتفوّق) على سرده الكلامي. لا أدري أيضاً لماذا حضَرَ قويّاً “بودوان“ الفنّان الفرنسي الشاعر بنصّه وخطوطه، وبرّاق إليه ربّما أقرب. ت
في اسلوب رسمه (أو في صوره الفوتوغرافيّة بشكل أقلّ) يتهرّبُ ريما من الإلتزام. ليس نادراً أن يستخدم في العمل الواحد الرسم بالريشة في صفحة لينتقل إلى الفرشاة في أخرى فالـ”فوتوكوبي“ في ثالثة. أو الإنتقال من رسوم “اسكتشيّة“ إلى أخرى “تعبيريّة“ يتبعها بصور فوتوغرافيّة. وكأن ريما يحاول دائماً التجريب بين أساليب التعبير، أو ربّما الإختبار أو البحث عن الذات الفنّية ولكن بإصرار المحترف. وهنا يمتاز عن غيره من “المعاصرين” الذين يتركون حيّزاً واسعاً للصدفة في أعمالهم، أما هو فلا. يحاول الإتقان في كل كادر مرسوم وإن على حساب وحدة الأسلوب. وكأنه يرغب في التعلّم باستمرار عن غيره أو ذاته أيضاً. ت
وكما في أسلوبه الروائي يبقى ريما مميّزاً في أفكاره الغرافيكيّة (تأثير الدراسة السينمائيّة؟). حين يرسم لا يكتفي بالتمثيل فيذهب إلى ماهو أبعد، إلى الإخراج. في “حكواتي القاهرة” يستبدل رأس الحكواتي برسم لوجه يوسف شاهين (مقصد الرحلة) ليرحل الرأس بعدها إلى جسد أحد روّاد المقهى... وهكذا. لعبة بصريّة فريدة تميّز لغة ريما في اللعب على الألغاز وتبادل الأدوار والمعاني التي ترافقنا في صفحات الألبوم ومختلف فصوله. هكذا يبدأ أحد مدخّني “الشيشة” بالرسم على الجدار بطرف الأرغيلة، أو حين يؤنسن “يد فاطمة” فتبدأ الحديث، أو في الحوار بين صورة أم كلثوم وصورة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر المعلّقتين على حائط “قهوة الفيشاوي”. ت
وكنت تمنّيت لو أنه استغلّ هذه اللعبة الغرافيكيّة إلى آخرها رسماً وخطوطاً، لكنّه بقي في هذا المجال مُقِلاًّ ومقتصداً على الأيحاء الذي يّثقلُ بعض صفحاته فتصبح رسومه “متخمة” بالألغاز والأحاجي التي لا يفقه حلّها سواه أو من كان معه في تلك اللحظة وشاركه الأحساس أو التفاصيل. لذا نراه “يسقط” رسماً حين يكثر الكلام في مونولوجات أو تداعيات فكريّة مألوفة ومردّدة عند غيره. ت
وكأن ريما يستكمل عناصر التعبير الغرافيكي الذي بدأه مع مشروعيه الجامعيين بعنوان “بيروت” (طبعهما لاحقاً على نفقته ووزّعهما، كما أعمالاً أخرى)، حيث الأساس للرسم التخطيطي بالأسود والأبيض (لم يتخلّ عنهما في مسيرته اللاحقة) والغوص في التفاصيل راسماً العمارة ومتناسياً إيّاها عمداً عند رسم الأشخاص. هل أراد بذلك أن يحفر في ذاكرته مشاهد مدينة لم يعرفها إلا من خلال عيني وقصص والدته الحاضرة-الغائبة في كل أعماله (إنتقل من طرابلس إلى بروكسيل دون المرور بـ”العاصمة” الأساس)؟ فيما ناسها تعرّف إليهم من خلال الصور الفوتوغرافيّة التي يلجأ إليها غالباً للتوثيق في أعماله؟ جميلة بيروت وبيوتها كما يرسمها برّاق ريما، بخطوطها وظلالها، تفاصيل عماراتها وزخرفات نوافذها. جميلة وغنيّة بصراً وإحساساً. ومُلفِتُ تناقضها مع القاهرة أو الأسكندريّة في كتابه الآخر حيثُ ضاعت تفاصيل شوارعها ومقاهيها المكتظّة (ما عدا صفحتين في الكتاب كلّه) على حساب الأفكار ، وتراجع الإحساس بالمدينة على حساب التداعيات الغرافيكيّة. وكأنه رسم المدينة في الأولى وورسم نفسه في المدينة الثانية. ت
ربّما أيضاً أن برّاق ريما أقدر على إلتقاط تفاصيل أحلامه، منه خطوط واقعه. هو اللاجئ الدائم إلى عالم الذكرى، ذكرى تقنيّات تعلمّها ويحاول إعادة تطبيقها، ومحترفات حضرها ويسعى إلى استحضارها. والأهم ذكرى مدينة بعيدة عنه ويرغبُ في استعادتها، ووالدة فقدها ويرغب في عيشها من جديد. ظلم نفسه في “السمندل” حين نشر بعض تجاريبه الفوتوغرافيّة الحديثة (وهي أضعف ما لديه) وليس عالم رسومه الغنيّ بالمصطلحات البصريّة والأحاسيس المكثّفة والخطوط الاحترافيّة التي تصنعُ هويّته في الشريط المصوّر. ت
في لقائي معه في أحد مقاهي بيروت قبل أيام، استوقفني دفتر رسومه الذي يحمله معه في ترحاله المتواصل وعلى غلافه الأسود بالخط الأصفر عبارة “تكرم عينك يا بابا” وفي داخله رسوم واسكتشات، وفي صفحات أخرى بداية حكاية جديدة يعمل عليها (من ذاكرته أيضاً). في إحدى صفحاتها يكتُبُ باللكنة المحلّية الطرابلسيّة مُعَرِّفاً عن نفسه : “أنا من طروبلس بس عويش بالمنيو”... ت
فهل آن الأوان ليعود إلى مينائه تاركاً وراءه ترحاله، وهي فكرة بدأت تراوده؟ فبيروت هي أيضاً أرض الأحلام والذكرى، هي العالم الذي منه وفيه يتنفّس برّاق ريما...ت
وهو يدرك ذلك...ت
︎︎︎
جورج خوري (جاد) النهار، الأول من أيّار ٢٠١٠
في محاضرة-عرض عن لغة الشريط المصوّر ضمن مشغل تُعدّه الجامعة اللبنانيّة الأميركيّة لطللاّبها، تساءل برّاق ريما (الآتي من بروكسيل بعد غياب أكثر من عشر عن بيروت) عن معنى التمثيل في الفنون وحدودها وتمايزها عن بعضها. وبدا خلال العرض وكأنّه يُسائل نفسه محاولاً تلمّس الإجابة على أحاجي طرحها منذ ألبومه الأول “حكواتي القاهرة“ التي زارها للقاء المخرج يوسف شاهين وهو ما زال طالباً لفنون السينما. ت
وإذا كان بدأ “رسّاماً“ يستكشف خطوطه في ألبومه الأول والأخير الصادر عن دار نشر “لاكفتيير“، فإنّه في تجاربه الأخيرة المتقطّعة التي أعادت مجلّة “السمندل“ نشر قليلها، يختبر ولوج الصورة الفوتوغرافيّة (وهو التشكيلي والسينمائي الأختصاص في الأصل) دون أن يصل إلى ما يُقنع، فيعود إلى الخطّ ولكن من حيث توقّف ليستمرّ “هائماً“ بين الوسيطين تجمعُ بينهما القُدرة على الرواية. وهو في ذلك “حكواتي“ بامتياز يخرجُ من جعبته ما يسند قصّته خطوطاً “إسكتشيّة“ أو “كولاّجيّة“ أو صوراً فوتوغرافيّة أو حتّى فراغاً بصريّاً (منحى جديداً بدأنا نعتاده مع بعض “الفنون المعاصرة“). ت
يبدأ برّاق ريما رحلته إلى القاهرة والأسكندرية بصورة لحكواتي قديم معلّقة في مقهى شعبي (نكتشف ذلك بعد صفحات عدّة) وتأكيد على أن الراوي في الشرق “كلّما تكلّم أكثر، أخبرنا المزيد من القصص دون أن ينهي أيّاً منها“. وكأنه في كل ما نشر لاحقاً، على قلّته، تبنّى المقولة نفسها فبقي مايقوله كلاماً وأفكاراً مبعثرة لا تستقيم في رواية منتهية، أو ربّما أرادها عن قصد أفكاراً مفتوحة يتركُ للقارئ حرّية اختيار خواتمها (إذا تمكّن). هكذا يبدأ في وصف المتسوّلين في مصر وكيف أن “بعضهم يمدُّ يده فيما يبيع الآخر مواهبه الموسيقيّة أو كلامه المعسول... عايدة كانت تبيع محارم من ورق... أعطيتها ممحاة“. صفحة تسقط من مخيّلة المؤلّف لا لتُكمِلَ ما سبقها أو لتبدأ ما يليها. وكأنها سقطت سهواً منه، أو اقتُطعت عَرَضاً من دفتر ملاحظات سفر. و”حكواتي القاهرة“ هو قبل كل شيء مدوّنات رحلة مثلها كل أعماله. ت
رحّالة في عالم الفنون والتعابير هو برّاق ريما. على سفر دائم، بين مدينتين، ثقافتين، شخصيّتين، وسيلتي تعبير (هويّتين؟)... تبدو انتاجاته صفحات غير مكتملة من مدوّنة ذاته. يكتفي بفكرة واحدة، أو بإحساس واحد، أو برؤيا واحدة، يغوص في كلّ منها، يُسجِّل تفاعله هو معها... ويمضي دون الإلتفات وراءه... وإذا عاد فليجمع أوراقه المبعثرة في مشروع واحد أو ألبوم، وربّما لذلك علينا الإنتظار قبل صدور جديده في كتاب... (العمل الثابت الوحيد كان نشره شريطاً مصوّراً أسبوعيّاً في صحيفة “بروسل ديزه ويك“ البلجيكيّة، أوقفه خوفاً من “الوقوع في التكرار“ كما يُردّد). ت
سياقه الروائي أعاد إلى ذاكرتي ما كان يقوم به إدغار آحو، مُبدعٌ آخر من عندنا رحل باكراً وسبَقَه إلى تركيباته السورياليّة وعبثيّة أفكاره المُغرقة في ذاتيّتها، مع اختلاف اللغة التشكيليّة المتكاملة والفريدة للأخير حيثُ كانت لغته البصريّة توازي (وفي بعض الأحيان تتفوّق) على سرده الكلامي. لا أدري أيضاً لماذا حضَرَ قويّاً “بودوان“ الفنّان الفرنسي الشاعر بنصّه وخطوطه، وبرّاق إليه ربّما أقرب. ت
في اسلوب رسمه (أو في صوره الفوتوغرافيّة بشكل أقلّ) يتهرّبُ ريما من الإلتزام. ليس نادراً أن يستخدم في العمل الواحد الرسم بالريشة في صفحة لينتقل إلى الفرشاة في أخرى فالـ”فوتوكوبي“ في ثالثة. أو الإنتقال من رسوم “اسكتشيّة“ إلى أخرى “تعبيريّة“ يتبعها بصور فوتوغرافيّة. وكأن ريما يحاول دائماً التجريب بين أساليب التعبير، أو ربّما الإختبار أو البحث عن الذات الفنّية ولكن بإصرار المحترف. وهنا يمتاز عن غيره من “المعاصرين” الذين يتركون حيّزاً واسعاً للصدفة في أعمالهم، أما هو فلا. يحاول الإتقان في كل كادر مرسوم وإن على حساب وحدة الأسلوب. وكأنه يرغب في التعلّم باستمرار عن غيره أو ذاته أيضاً. ت
وكما في أسلوبه الروائي يبقى ريما مميّزاً في أفكاره الغرافيكيّة (تأثير الدراسة السينمائيّة؟). حين يرسم لا يكتفي بالتمثيل فيذهب إلى ماهو أبعد، إلى الإخراج. في “حكواتي القاهرة” يستبدل رأس الحكواتي برسم لوجه يوسف شاهين (مقصد الرحلة) ليرحل الرأس بعدها إلى جسد أحد روّاد المقهى... وهكذا. لعبة بصريّة فريدة تميّز لغة ريما في اللعب على الألغاز وتبادل الأدوار والمعاني التي ترافقنا في صفحات الألبوم ومختلف فصوله. هكذا يبدأ أحد مدخّني “الشيشة” بالرسم على الجدار بطرف الأرغيلة، أو حين يؤنسن “يد فاطمة” فتبدأ الحديث، أو في الحوار بين صورة أم كلثوم وصورة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر المعلّقتين على حائط “قهوة الفيشاوي”. ت
وكنت تمنّيت لو أنه استغلّ هذه اللعبة الغرافيكيّة إلى آخرها رسماً وخطوطاً، لكنّه بقي في هذا المجال مُقِلاًّ ومقتصداً على الأيحاء الذي يّثقلُ بعض صفحاته فتصبح رسومه “متخمة” بالألغاز والأحاجي التي لا يفقه حلّها سواه أو من كان معه في تلك اللحظة وشاركه الأحساس أو التفاصيل. لذا نراه “يسقط” رسماً حين يكثر الكلام في مونولوجات أو تداعيات فكريّة مألوفة ومردّدة عند غيره. ت
وكأن ريما يستكمل عناصر التعبير الغرافيكي الذي بدأه مع مشروعيه الجامعيين بعنوان “بيروت” (طبعهما لاحقاً على نفقته ووزّعهما، كما أعمالاً أخرى)، حيث الأساس للرسم التخطيطي بالأسود والأبيض (لم يتخلّ عنهما في مسيرته اللاحقة) والغوص في التفاصيل راسماً العمارة ومتناسياً إيّاها عمداً عند رسم الأشخاص. هل أراد بذلك أن يحفر في ذاكرته مشاهد مدينة لم يعرفها إلا من خلال عيني وقصص والدته الحاضرة-الغائبة في كل أعماله (إنتقل من طرابلس إلى بروكسيل دون المرور بـ”العاصمة” الأساس)؟ فيما ناسها تعرّف إليهم من خلال الصور الفوتوغرافيّة التي يلجأ إليها غالباً للتوثيق في أعماله؟ جميلة بيروت وبيوتها كما يرسمها برّاق ريما، بخطوطها وظلالها، تفاصيل عماراتها وزخرفات نوافذها. جميلة وغنيّة بصراً وإحساساً. ومُلفِتُ تناقضها مع القاهرة أو الأسكندريّة في كتابه الآخر حيثُ ضاعت تفاصيل شوارعها ومقاهيها المكتظّة (ما عدا صفحتين في الكتاب كلّه) على حساب الأفكار ، وتراجع الإحساس بالمدينة على حساب التداعيات الغرافيكيّة. وكأنه رسم المدينة في الأولى وورسم نفسه في المدينة الثانية. ت
ربّما أيضاً أن برّاق ريما أقدر على إلتقاط تفاصيل أحلامه، منه خطوط واقعه. هو اللاجئ الدائم إلى عالم الذكرى، ذكرى تقنيّات تعلمّها ويحاول إعادة تطبيقها، ومحترفات حضرها ويسعى إلى استحضارها. والأهم ذكرى مدينة بعيدة عنه ويرغبُ في استعادتها، ووالدة فقدها ويرغب في عيشها من جديد. ظلم نفسه في “السمندل” حين نشر بعض تجاريبه الفوتوغرافيّة الحديثة (وهي أضعف ما لديه) وليس عالم رسومه الغنيّ بالمصطلحات البصريّة والأحاسيس المكثّفة والخطوط الاحترافيّة التي تصنعُ هويّته في الشريط المصوّر. ت
في لقائي معه في أحد مقاهي بيروت قبل أيام، استوقفني دفتر رسومه الذي يحمله معه في ترحاله المتواصل وعلى غلافه الأسود بالخط الأصفر عبارة “تكرم عينك يا بابا” وفي داخله رسوم واسكتشات، وفي صفحات أخرى بداية حكاية جديدة يعمل عليها (من ذاكرته أيضاً). في إحدى صفحاتها يكتُبُ باللكنة المحلّية الطرابلسيّة مُعَرِّفاً عن نفسه : “أنا من طروبلس بس عويش بالمنيو”... ت
فهل آن الأوان ليعود إلى مينائه تاركاً وراءه ترحاله، وهي فكرة بدأت تراوده؟ فبيروت هي أيضاً أرض الأحلام والذكرى، هي العالم الذي منه وفيه يتنفّس برّاق ريما...ت
وهو يدرك ذلك...ت